غالباً ما تنتهي الثورات ضد الأنظمة القائمة أو ضد المحتل الأجنبي إلى (تسوية تاريخية) تعبر تعبيراً حقيقياً عن توازن القوى بين الطرفين المتصارعين، وتنطلق من مبدأ التنازل المشترك، وصولاً إلى حل يحدد هذا التوازن أبعاده. وقد شهدنا ذلك في تاريخ الثورات الإنسانية قديمها وحديثها سواء كانت ثورات شعوب ضد أنظمتها أم ضد المحتل.
يمكن تجاهل التسوية أو تناسيها أو رفضها عندما يكون ميزان القوى هذا حاسماً لصالح أحد الطرفين المتصارعين عندما يحقق نصراً ساحقاً على الآخر، وهذا ما حصل في كوبا( 1959 ) في الثورة التي قادها كاسترو لأن الشعب الكوبي كان معادياً للرئيس (باتيستا) وتكرر الأمر نفسه في إيران 1979 بعد (ثورة الخميني)، حيث كان الشعب الإيراني يريد رحيل الشاه، ولعل بطون التاريخ مملوءة بالأمثلة.
منذ الأشهر الأولى للثورة السورية تسرب شعار طرحه أنصار السلطة القائمة وكرروه أكثر من مرة وهو (الأسد أو ندمر البلد) أي أنهم يرفضون رفضاً مطلقاً أية تسوية، ويريدون سحق الثورة أو الانتفاضة أو الحراك وإخضاعها بدون قيد أو شرط، وإعطاء أنفسهم الحق الكامل بحكم البلد وإدارة النظام السياسي بالطريقة التي يرونها.
وأكد هذا الموقف عدم رغبة السلطة بالمشاركة بأية مفاوضات أو محادثات أو حوار وصولاً لتسوية مع الحراك الشعبي وتيارات المعارضة السورية، فتفاقم الصراع وتحول مع الزمن من نشاط وتظاهر سلميين إلى صراع مسلح استخدمت فيه السلطة جميع أنواع الأسلحة، وتبنت الحل الأمني على حساب الحل السياسي، وفي الخلاصة غرقت سورية في الدماء، وتعقدت الأزمة وتشابكت أطرافها، وغابت إلى حد بعيد آفاق احتمالات حلها.
مما أدى إلى نتيجتين: الأولى استمرار هروب السلطة إلى الأمام، حيث استساغت الحل العسكري والعنف المسلح واعتقدته أقرب الطرق لخلاصها، غارقة في وهم سيطر عليها وهو إمكانية انتصارها على شعبها، أما النتيجة الثانية فهي أن المعارضة السورية بمعظم فصائلها وأمام إصرار النظام على العنف وإنكاره حقوق الناس، رفضت بدورها التسوية إلا إذا بدأت بتنحي الرئيس، أي باستسلام السلطة استسلاماً مطلقاً. وهذا ما ترفضه السلطة حتى لو دمرت البلاد.
وأصبحت الأزمة السورية تواجه الآن معضلة يصعب حلها، وصعوبات لم تترك نافذة للخروج منها، بل أدت الظروف السائدة إلى مزيد من تطرف السلطة والمعارضة في مواقف كل منهما من التسوية، ونسي الجميع أو تناسوا أو جهلوا أو تجاهلوا أن لا حل للأزمة السورية إلا بالتوصل إلى تسوية تاريخية تأخذ مصالح الشعب السوري باعتبارها، وتضع الأسس والشروط الموضوعية لحل العقد والمشاكل والصعوبات التي نشأت منذ قيام الثورة، أوكانت نتيجة لها، كما تضع حلاً لحقوق (الشعب السوري) الإنسانية والاجتماعية المهضومة قبل الثورة.
وذلك بأعلى درجة من المسؤولية والالتزام بمصالح الشعب واعتبار أن الجميع مواطنون كاملوا المواطنة لهم حقوق وواجبات على رأسها الأمن والاستقرار والمساواة وتأمين الحد الأدنى من العيش الكريم.
ينبغي على أية تسوية سورية أن تأخذ باعتبارها حتماً، إذا كانت تسوية جادة، ضرورة الوصول إلى اتفاق نهائي بين طرفي الصراع يقضي بإقامة نظام سياسي اجتماعي ديمقراطي تعددي تداولي. وهذه بديهية وشرط مسبق لابد من قبوله من أجل إنجاح أية تسوية، كما ينبغي على المعارضة أن تأخذ باعتبارها بأن النظام لن يستسلم مجاناً حتى لو اضطره الأمر إلى تدمير سورية.
للوصول إلى هذه التسوية، يبدو أنه ينبغي إجراء محادثات بين الطرفين، من خلال تشكيل هيئة مشتركة تضم أعضاء من النظام لم تلطخ أيديهم لا بالدماء ولا بالفساد، وأعضاء من المعارضة، على شكل حكومة مؤقتة تفوض بصلاحيات رئيس الجمهورية كاملة خلال المرحلة الانتقالية، ويتم إطلاق سراح كافة المعتقلين غير الجنائيين سواء كان اعتقالهم بسبب التظاهرات أم بسبب آخر، وإحالة المرتكبين إلى المحاكمة العادلة لينال من يدان منهم الجزاء الذي يستحقه.
والاعتراف بالتعويض عن الشهداء والجرحى وعن البيوت التي دمرت والخسائر التي تكبدها الناس فضلاً عن كف يد الأجهزة الأمنية عن ملاحقة المواطنين، وإعادة هذه الأجهزة إلى مهماتها الأصلية العسكرية منها للشؤون العسكرية فقط والمدنية للدراسات وتقديم المعلومات للجهات المعنية.
وإرجاع القوات العسكرية الموازية إلى جسم الجيش الأصلي والخضوع لقيادته، واختيار قيادة للجيش حسب الكفاءة والقدم، والسماح بالتظاهر أو تشكيل الأحزاب وإصدار الصحف وفتح المجال لمؤسسات المجتمع المدني للعمل والنشاط، في الوقت الذي تعمل فيه السلطة المؤقتة على تهيئة المناخ لانتخاب أعضاء هيئة تأسيسية تقوم بصياغة الدستور وصولاً إلى دستور دائم وتحديد الوقت اللازم لذلك.
هذه هي الملامح الأساسية لأية تسوية جادة وعادلة في سورية حسب رأي المعارضة، التي ترى أنه يواجه مثل هذه التسوية عقبتان: الأولى هي أن السلطة السورية القائمة الآن ترفض أية تسوية لا تناسب هواها، وهواها هو استسلام الحراك الشعبي والمعارضة والفصائل السياسية، وما يسمى (بالجيش الحر) مقابل دخول المعارضة في الوزارة أو تولي مناصب في إدارة الدولة.
وأن يتم الاعتراف بأن السلطة قامت بالإصلاحات المطلوبة، وأن يبقى لهذه السلطة الحق بالتصرف بسورية دولة ومجتمعاً وشعباً واقتصاداً.
والثانية هي أن المعارضة ترفض بدورها وبمعظم فصائلها قبول أية تسوية ما لم يتنح الرئيس مسبقاً، وبالتالي ما لم يسقط النظام مسبقاً، أي بدون أية مفاوضات أو حوار أو تسويات. وهكذا يرفض الطرفان صاحبا العلاقة الدخول في إجراءات أية تسوية جدية لأزمة مستحكمة من شأنها إذا استمرت أن تدمر سورية بسلطتها ومعارضتها.